فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ بِسَبَبِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، أَمَّا الْمُتَمَتِّعُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْكَلَامُ فِي الْهَدْيِ فِي مَوَاضِعَ: فِي تَفْسِيرِ الْهَدْيِ، وَفِي بَيَانِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَاجِبِ وَفِي بَيَانِ مَكَانِ إقَامَتِهِ، وَفِي بَيَانِ زَمَانِ الْإِقَامَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْهَدْيُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ التَّمَتُّعِ اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ شَاةٌ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْغَنَمِ لَكِنَّ الشَّاةَ هاهنا مُرَادَةٌ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِهَا عَنْ الْمُتْعَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا: مَا رُوِيَ: «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْهَدْيِ فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْنَاهُ شَاةٌ» إلَّا أَنَّ الْبَدَنَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْبَقَرَةِ، وَالْبَقَرَةُ أَفْضَلُ مِنْ الشَّاةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْهَدْيِ: أَدْنَاهُ شَاةٌ، فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَعْلَاهُ الْبَدَنَةُ وَالْبَقَرَةُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُبَكِّرُ إلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً ثُمَّ كَالْمُهْدِي شَاةً».
وَكَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ الْبُدْنَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا، وَلِأَنَّ الْبَدَنَةَ أَكْثَرُ لَحْمًا وَقِيمَةً مِنْ الْبَقَرَةِ، وَالْبَقَرَةُ أَكْثَرُ لَحْمًا وَقِيمَةً مِنْ الشَّاةِ، فَكَانَ أَنْفَعَ لِلْفُقَرَاءِ فَكَانَ أَفْضَلَ.
وَأَمَّا وُجُوبُهُ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} أَيْ: فَعَلَيْهِ ذَبْحُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} الْآيَةَ أَيْ فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مَعْنَاهُ فَأَفْطَرَ فَلْيَصُمْ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِهِ فَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ، وَلَا وُجُوبَ إلَّا عَلَى الْقَادِرِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}.
مَعْنَاهُ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ سَوَاءٌ طَافَ لِعُمْرَتِهِ أَوْ لَمْ يَطُفْ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، كَذَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ الْخِلَافَ.
وَذَكَرَ إمَامُ الْهُدَى أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- الْقِيَاسَ: أَنْ لَا يَجُوزَ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْحَجِّ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْحَجِّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَذَلِكَ بِالْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ دَمُ الْمُتْعَةِ دَمُ كَفَّارَةٍ وَجَبَ جَبْرًا لِلنَّقْصِ، وَمَا لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ لَا يَظْهَرُ النَّقْصُ، وَلَنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجَّةِ فَكَانَ الصَّوْمُ تَعْجِيلًا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَجَازَ، وَقَبْلَ وُجُودِ الْعُمْرَةِ لَمْ يُوجَدْ السَّبَبُ فَلَمْ يَجُزْ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الْمُتَمَتِّعِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ.
كَذَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتْ السُّنَّةُ فِي حَقِّهِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ فَلَا يُمْكِنُهُ صِيَامُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا بَقِيَ لَهُ يَوْمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ قَدْ نُهِيَ عَنْ الصِّيَامِ فِيهَا، فلابد مِنْ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الصَّوْمِ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْحَجِّ.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهَا: إنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا وَقْتُ الْحَجِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ إذْ الْحَجُّ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لِلصَّوْمِ، وَالْوَقْتُ يَصْلُحُ ظَرْفًا لَهُ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أَيْ وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، وَعَلَى هَذَا صَارَتْ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ، وَقَدْ صَامَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَجَازَ إلَّا أَنَّ زَمَانَ مَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ صَارَ مَخْصُوصًا مِنْ النَّصِّ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ بِأَنْ يَصُومَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ، وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَدَلًا عَنْ الْهَدْيِ، وَأَفْضَلُ أَوْقَاتِ الْبَدَلِ وَقْتُ الْيَأْسِ عَنْ الْأَصْلِ لِمَا يَحْتَمِلُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ تَأْخِيرَ التَّيَمُّمِ إلَى آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْمَاءِ قَبْلَهُ، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ آخِرُ وَقْتِ هَذَا الصَّوْمِ عِنْدَنَا، فَإِذَا مَضَتْ وَلَمْ يَصُمْ فِيهَا فَقَدْ فَاتَ الصَّوْمُ وَسَقَطَ عَنْهُ، وَعَادَ الْهَدْيُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ يَتَحَلَّلُ، وَعَلَيْهِ دَمَانِ: دَمُ التَّمَتُّعِ، وَدَمُ التَّحَلُّلِ قَبْلَ الْهَدْيِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَفُوتُ بِمُضِيِّ هَذِهِ الْأَيَّامِ، ثُمَّ لَهُ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ يَصُومُهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَفِي قَوْلٍ يَصُومُهَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} أَيْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ لِمَا بَيَّنَّا عَيْنَ وَقْتِ الْحَجِّ لِصَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، إلَّا أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِهَذَا الصَّوْمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا رَوَاهُ لَيْسَ وَقْتَ الْحَجِّ، فَلَا يَكُونُ مَحِلًّا لِهَذَا الصَّوْمِ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمُتَمَتِّعُ إنَّمَا يَصُومُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهُوَ مُتَمَتِّعٌ لَمْ يَصُمْ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اذْبَحْ شَاةً، فَقَالَ الرَّجُلُ مَا أَجِدُهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ سَلْ قَوْمَكَ، فَقَالَ: لَيْسَ هاهنا مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا مُغِيثُ أَعْطِهِ عَنِّي ثَمَنَ شَاةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ رَأْيًا وَاجْتِهَادًا.
وَأَمَّا صَوْمُ السَّبْعَةِ، فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَلْ يَجُوزُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ بِمَكَّةَ قَبْلَ الرُّجُوعِ إلَى الْأَهْلِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجُوزُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الرُّجُوعِ إلَى الْأَهْلِ إلَّا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ فَيَصُومُهَا بِمَكَّةَ فَيَجُوزُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} أَيْ إذَا رَجَعْتُمْ إلَى أَهْلِيكُمْ، وَلَنَا هَذِهِ الْآيَةُ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إذَا رَجَعْتُمْ} مُطْلَقًا، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ، وَصَامَهَا يَجُوزُ، وَهَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: إذَا رَجَعْتُمْ مِنْ مِنًى.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا فَرَغْتُمْ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَقِيلَ: إذَا أَتَى وَقْتُ الرُّجُوعِ.
وَلَوْ وَجَدَ الْهَدْيَ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ أَوْ بَعْدَ مَا صَامَ فَوَجَدَهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ: يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ، وَيَسْقُطُ حُكْمُ الصَّوْمِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ، وَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الصَّوْمِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ، وَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَبَطَل حُكْمُ الْبَدَلِ كَمَا لَوْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي خِلَالِ التَّيَمُّمِ.
وَلَوْ وَجَدَ الْهَدْيَ فِي أَيَّامِ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَ مَا حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ فَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَصُومَ السَّبْعَةَ صَحَّ صَوْمُهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبَدَلِ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ قَدْ حَصَلَ، فَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ كَمَا لَوْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ، وَاخْتَلَفَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ فِي صَوْمِ السَّبْعَةِ قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: إنَّهُ لَيْسَ بِبَدَلٍ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْهَدْيِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا جَوَازَ لِلْبَدَلِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ كَمَا فِي التُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الرَّازِيّ: إنَّهُ بَدَلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا حَالَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ، وَجَوَازُهُ حَالَ وُجُودِ الْأَصْلِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ بَدَلًا.
وَلَوْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ الذَّبْحِ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ فَصَوْمُهُ مَاضٍ، وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ يَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ الذَّبْحِ عِنْدَنَا، فَإِذَا مَضَتْ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ إبَاحَةُ التَّحَلُّلِ فَكَأَنَّهُ تَحَلَّلَ ثُمَّ وَجَدَ الْهَدْيَ.
وَأَمَّا صِفَةُ الْوَاجِبِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ دَمُ نُسُكٍ وَجَبَ شُكْرًا لِمَا وُفِّقَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ بِسَفَرٍ وَاحِدٍ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَيُطْعِمَ مِنْ شَاءَ، غَنِيًّا كَانَ الْمُطْعَمُ أَوْ فَقِيرًا وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الثُّلُثَ، وَيَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ، وَيُهْدِيَ الثُّلُثَ لِأَقْرِبَائِهِ وَجِيرَانِهِ، سَوَاءٌ كَانُوا فُقَرَاءَ أَوْ أَغْنِيَاءَ كَدَمِ الْأُضْحِيَّةَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ دَمُ كَفَّارَةٍ وَجَبَ جَبْرًا لِلنَّقْصِ بِتَرْكِ إحْدَى السَّفْرَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لِلْغَنِيِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ.
وَأَمَّا الْقَارِنُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُتَمَتِّعِ فِي وُجُوبِ الْهَدْيِ عَلَيْهِ إنْ وَجَدَ، وَالصَّوْمُ إنْ لَمْ يَجِدْ، وَإِبَاحَةُ الْأَكْلِ مِنْ لَحْمِهِ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتَمَتِّعِ فِيمَا لِأَجْلِهِ وَجَبَ الدَّمُ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجَّةِ، وَالْعُمْرَةِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ.
وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا فَنَحَرَ الْبُدْنَ، وَأَمَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخَذَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ قِطْعَةً فَطَبَخَهَا، وَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لَحْمِهَا، وَحَسَا مِنْ مَرَقِهَا».
وَأَمَّا مَكَانُ هَذَا الدَّمِ فَالْحَرَمُ، لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}، وَمَحِلُّهُ الْحَرَمُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هَدْيُ الْمُتْعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} وَالْهَدْيُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ أَيْ يُبْعَثُ، وَيُنْقَلُ إلَيْهِ.
وَأَمَّا زَمَانُهُ فَأَيَّامُ النَّحْرِ حَتَّى لَوْ ذَبَحَ قَبْلَهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ عِنْدَنَا فَيَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ كَالْأُضْحِيَّةِ.
وَأَمَّا بَيَانُ أَفْضَلِ أَنْوَاعِ مَا يُحْرِمُ بِهِ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ، ثُمَّ التَّمَتُّعَ، ثُمَّ الْإِفْرَادَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ حَجَّةً كُوفِيَّةً، وَعُمْرَةً كُوفِيَّةً أَفْضَلُ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ بِالْحَجِّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ» فَدَلَّ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ؛ إذْ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا.
وَلَنَا أَنَّ الْمَشْهُورَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ» رَوَاهُ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، وَأَنَا بِالْعَقِيقِ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ، وَقُلْ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ فِي حَجَّةٍ» حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصْرُخُ بِهَا صُرَاخًا، وَيَقُولُ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ فِي حَجَّةٍ فَدَلَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا.
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ بَيْنَهُمَا تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، وَتَنْفِي الْفَقْرَ»، وَلِأَنَّ الْقِرَانَ، وَالتَّمَتُّعَ جَمْعٌ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ بِإِحْرَامَيْنِ، فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ إتْيَانِ عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ مِنْ التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ، حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ آفَاقِيَّتَانِ؛ لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ الْآفَاقِ، وَالْمُتَمَتِّعُ عُمْرَتُهُ آفَاقِيَّةٌ، وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْآفَاقِ، وَبِالْحَجَّةِ مِنْ مَكَّةَ.
وَالْحَجَّةُ الْآفَاقِيَّةُ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجَّةِ الْمَكِّيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، وَرَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، وَمَا كَانَ أَتَمَّ فَهُوَ أَفْضَلُ.
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَالْمَشْهُورُ مَا رَوَيْنَا، وَالْعَمَلُ بِالْمَشْهُورِ أَوْلَى مَعَ مَا أَنَّ فِيمَا رَوَيْنَا زِيَادَةً لَيْسَتْ فِي رِوَايَتِهِ.
وَالزِّيَادَةُ بِرِوَايَةِ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، فَنَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِنًا لَكِنَّهُ كَانَ يُسَمِّي الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّةَ فِي التَّلْبِيَةِ بِهِمَا مَرَّةً، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِهِمَا لَكِنَّهُ كَانَ يُسَمِّي بِإِحْدَاهُمَا مَرَّةً، إذْ تَسْمِيَةُ مَا يُحْرِمُ بِهِ فِي التَّلْبِيَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ التَّلْبِيَةِ فَرَاوِي الْإِفْرَادِ سَمِعَهُ يُسَمِّي الْحَجَّةَ فِي التَّلْبِيَةِ فَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ، فَظَنَّهُ مُفْرِدًا فَرَوَى الْإِفْرَادَ، وَرَاوِي الْقِرَانِ وَقَفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ فَرَوَى الْقِرَانَ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ الْمُحْرِمِ إذَا مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الْإِحْرَامِ:

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمُحْرِمِ إذَا مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُحْصَرِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فَالْكَلَامُ فِي الْإِحْصَارِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ: فِي تَفْسِيرِ الْإِحْصَارِ أَنَّهُ مَا هُوَ، وَمِمَّ يَكُونُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِحْصَارِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ زَوَالِ الْإِحْصَارِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُحْصَرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَمْنُوعُ، وَالْإِحْصَارُ هُوَ الْمَنْعُ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ هُوَ اسْمٌ لِمَنْ أَحْرَمَ ثُمَّ مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ الْعَدُوِّ أَوْ الْمَرَضِ أَوْ الْحَبْسِ أَوْ الْكَسْرِ أَوْ الْعَرَجِ، وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَانِعِ مِنْ إتْمَامِ مَا أَحْرَمَ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ شَرْعًا، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا إحْصَارَ إلَّا مِنْ الْعَدُوِّ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُحْصِرُوا مِنْ الْعَدُوِّ، وَفِي آخِرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} وَالْأَمَانُ مِنْ الْعَدُوِّ يَكُونُ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا لَا حَصْرَ إلَّا مِنْ عَدُوٍّ، وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ}، وَالْإِحْصَارُ هُوَ الْمَنْعُ، وَالْمَنْعُ كَمَا يَكُونُ مِنْ الْعَدُوِّ يَكُونُ مِنْ الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ عِنْدَنَا لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ؛ إذْ الْحُكْمُ يَتْبَعُ اللَّفْظَ لَا السَّبَبَ، وَعَنْ الْكِسَائِيّ، وَأَبِي مُعَاذٍ أَنَّ الْإِحْصَارَ مِنْ الْمَرَضِ، وَالْحَصْرَ مِنْ الْعَدُوِّ.
فَعَلَى هَذَا كَانَتْ الْآيَةُ خَاصَّةً فِي الْمَمْنُوعِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} فَالْجَوَابُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّ الْأَمْنَ كَمَا يَكُونُ مِنْ الْعَدُوِّ يَكُونُ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ إذَا زَالَ مَرَضُ الْإِنْسَانِ أَمِنَ الْمَوْتَ مِنْهُ أَوْ أَمِنَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ.
وَكَذَا بَعْضُ الْأَمْرَاضِ قَدْ تَكُونُ أَمَانًا مِنْ الْبَعْضِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الزُّكَامُ أَمَانٌ مِنْ الْجُذَامِ»، وَالثَّانِي- أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ مِنْ الْعَدُوِّ مُرَادٌ مِنْ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَ الْمُحْصَرِ مِنْ الْمَرَضِ مُرَادًا مِنْهَا، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ مُطْلَقُ الْكِتَابِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا يُرَى نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ»، وَقَوْلُهُ حَلَّ، أَيْ: جَازَ لَهُ أَنْ يَحِلَّ بِغَيْرِ دَمٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِذَلِكَ شَرْعًا، وَهُوَ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هاهنا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هاهنا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»، وَمَعْنَاهُ: أَيْ حَلَّ لَهُ الْإِفْطَارُ فَكَذَا هاهنا مَعْنَاهُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَحِلَّ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مُحْصَرًا مِنْ الْعَدُوِّ، وَمِنْ خِصَالِهِ التَّحَلُّلُ لِمَعْنًى هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى التَّرْفِيهِ، وَالتَّيْسِيرِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ بِإِبْقَائِهِ عَلَى الْإِحْرَامِ مُدَّةً مَدِيدَةً.
وَالْحَاجَةُ إلَى التَّرْفِيهِ وَالتَّيْسِيرِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ، فَيَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ، وَيَثْبُتُ مُوجَبُهُ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ دَفْعَ شَرِّ الْعَدُوِّ عَنْ نَفْسِهِ بِالْقِتَالِ فَيَدْفَعُ الْإِحْصَارَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْمَرَضِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمَّا جُعِلَ ذَلِكَ عُذْرًا فَلَأَنْ يُجْعَلَ هَذَا عُذْرًا أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَدُوُّ الْمَانِعُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا لِتَحَقُّقِ الْإِحْصَارِ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ.
وَكَذَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْإِحْصَارِ، وَهُوَ إبَاحَةُ التَّحَلُّلِ، وَغَيْرُهُ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْإِحْصَارِ مِنْ الْمُسْلِمِ وَمِنْ الْكَافِرِ.
وَلَوْ سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ أَوْ هَلَكَتْ رَاحِلَتُهُ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَهُوَ مُحْصَرٌ؛ لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ فَكَانَ مُحْصَرًا كَمَا لَوْ مَنَعَهُ الْمَرَضُ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ، فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى الْحَجِّ إنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ الْمَشْيُ إلَى الْحَجِّ ابْتِدَاءً، وَيَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ كَالْفَقِيرِ الَّذِي لَا زَادَ لَهُ وَلَا رَاحِلَةَ، شَرَعَ فِي الْحَجِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَشْيُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً قَبْلَ الشُّرُوعِ كَذَا هَذَا.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ فِي الْحَالِ، وَخَافَ أَنْ يَعْجِزَ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ الَّذِي لَا يُوصِلُهُ إلَى الْمَنَاسِكِ، وُجُودُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ مُحْصَرًا فَيَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ أَصْلًا، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ وَلَا زَوْجَ لَهَا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ فَمَاتَ مَحْرَمُهَا، أَوْ أَحْرَمَتْ وَلَا مَحْرَمَ مَعَهَا، وَلَكِنْ مَعَهَا زَوْجُهَا فَمَاتَ زَوْجُهَا أَنَّهَا مُحْصَرَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا مِنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ بِلَا زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ، وَلَهَا مَحْرَمٌ وَزَوْجٌ فَمَنَعَهَا زَوْجُهَا: أَنَّهَا مُحْصَرَةٌ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ حَجَّةِ التَّطَوُّعِ كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا عَنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ فَصَارَتْ مَمْنُوعَةً شَرْعًا بِمَنْعِ الزَّوْجِ فَصَارَتْ مُحْصَرَةً كَالْمَمْنُوعِ حَقِيقَةً بِالْعَدُوِّ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ، وَلَيْسَ لَهَا زَوْجٌ فَلَيْسَتْ بِمُحْصَرَةٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ حَقِيقَةً، وَشَرْعًا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ وَلَهَا زَوْجٌ فَأَحْرَمَتْ بِإِذْنِ الزَّوْجِ: أَنَّهَا لَا تَكُونُ مُحْصَرَةً، وَتَمْضِي فِي إحْرَامِهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ وَلَيْسَ لَهَا مَحْرَمٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ بِغَيْرِ زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ، وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ، فَإِنْ أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ الْمُضِيِّ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِإِذْنِهِ لَا تَكُونُ مُحْصَرَةً؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَا مَحْرَمَ لَهَا، وَلَا زَوْجَ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْمَنْعُ أَقْوَى مِنْ مَنْعِ الْعِبَادِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ وَزَوْجٌ، وَلَهَا اسْتِطَاعَةٌ عِنْدَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهَا فَلَيْسَتْ بِمُحْصَرَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْفَرَائِضِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ.
وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ، وَلَا مَحْرَمَ مَعَهَا فَمَنَعَهَا الزَّوْجُ فَهِيَ مُحْصَرَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُرُوجِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ بِنَفْسِهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ.
وَلَوْ أَذِنَ لَا يَعْمَلُ إذْنُهُ فَكَانَتْ مُحْصَرَةً، وَهَلْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ مُحْصَرَةً مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ وَالْمُضِيِّ بِمَنْعِ الزَّوْجِ، صَارَ هَذَا كَحَجِّ التَّطَوُّعِ، وَهُنَاكَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا، فَكَذَا هَذَا.
وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَهُوَ مُحْصَرٌ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ الْمُضِيِّ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خُلْفٌ فِي الْوَعْدِ، وَلَا يَكُونُ الْحَاجُّ مُحْصَرًا بَعْدَ مَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ، وَيَبْقَى مُحْرِمًا عَنْ النِّسَاءِ إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} أَيْ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عَنْ إتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، وَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ بِالْوُقُوفِ لِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَجُّ عَرَفَةَ» فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَبَعْدَ تَمَامِ الْحَجِّ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ، وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ اسْمٌ لِفَائِتِ الْحَجِّ، وَبَعْدَ وُجُودِ الرُّكْنِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ الْوُقُوفُ لَا يُتَصَوَّرُ الْفَوَاتُ فَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا، وَلَكِنَّهُ يَبْقَى مُحْرِمًا عَنْ النِّسَاءِ إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ عَنْ النِّسَاءِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، فَإِنْ مُنِعَ حَتَّى مَضَى أَيَّامُ النَّحْرِ، وَالتَّشْرِيقِ، ثُمَّ خُلِّيَ سَبِيلُهُ: يَسْقُطُ عَنْهُ الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَدَمٌ لِتَرْكِ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ، وَطَوَافَ الصَّدْرِ، وَعَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَذَا عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ دَمٌ عِنْدَهُ.
وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَضَتْ فِي مَوْضِعِهَا، وَلَا إحْصَارَ بَعْدَ مَا قَدِمَ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمَ إنْ كَانَ لَا يُمْنَعُ مِنْ الطَّوَافِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ إنْ مُنِعَ مِنْ الطَّوَافِ، مَاذَا حُكْمُهُ؟ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ إنْ قَدَرَ عَلَى الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ جَمِيعًا أَوْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ مُحْصَرٌ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُحْصَرًا بَعْدَ مَا دَخَلَ الْحَرَمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ عَدُوٌّ غَالِبٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ إلَى مَكَّةَ كَمَا حَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ دُخُولِ مَكَّةَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْصَرٌ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ، هَلْ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ إحْصَارٌ؟ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ: كَانَتْ مَكَّةُ إذْ ذَاكَ حَرْبًا، وَهِيَ الْيَوْمَ دَارُ إسْلَامٍ، وَلَيْسَ فِيهَا إحْصَارٌ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ مِنْ التَّفْصِيلِ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْوُقُوفِ أَوْ عَلَى الطَّوَافِ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مُحْصَرًا، أَمَّا إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْوُقُوفِ فَلِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا إذَا كَانَ يَصِلُ إلَى الطَّوَافِ فَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالدَّمِ إنَّمَا رُخِّصَ لِلْمُحْصَرِ لِتَعَذُّرِ الطَّوَافِ قَائِمًا مَقَامَهُ، بَدَلًا عَنْهُ، بِمَنْزِلَةِ فَائِتِ الْحَجِّ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ الطَّوَافُ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الطَّوَافِ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ.
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْوُصُولِ إلَى أَحَدِهِمَا فَلِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، ثُمَّ الْإِحْصَارُ كَمَا يَكُونُ عَنْ الْحَجِّ يَكُونُ عَنْ الْعُمْرَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا إحْصَارَ عَنْ الْعُمْرَةِ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِحْصَارَ لِخَوْفِ الْفَوْتِ، وَالْعُمْرَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْفَوْتَ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ وَقْتٌ لَهَا، فَلَا يُخَافُ فَوْتُهَا بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَوْتَ فَيَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ عَنْهُ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} عَقِيبَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عَنْ إتْمَامِهِمَا فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حُصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، وَكَانُوا مُعْتَمِرِينَ فَنَحَرُوا هَدْيَهُمْ، وَحَلَقُوا رُءُوسَهُمْ، وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عُمْرَتَهُمْ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ حَتَّى سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ فِي الْحَجِّ لِمَعْنًى هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْعُمْرَةِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّضَرُّرِ بِامْتِدَادِ الْإِحْرَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.